الجمعة 29 مايو 2020 02:01 صباحاً
ومصر تعول أكثر وأكثر على مياه النيل، والتي هي إحدى دول المصب (11 دولة تشترك في أحقية النهر)، وترى أن لها كل الحق فيه كما لدول المنبع والمجرى. وتستند مصر في أحقيتها لمياه النيل إلى الواقع من جهة وإلى اتفاقيتين تاريخيتين موقعتين مع السودان، واحدة في الفترة الاستعمارية سنة 1929، والثانية بعد الاستقلال في سنة 1959. وتحصل مصر بموجب هذه الاتفاقيات على ما قدره 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنوياً بينما يبلغ نصيب السودان 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل البالغة 84 مليار متر مكعب سنوياً، ولكن بناء إثيوبيا لسد النهضة يعني تقلص حجم المياه السنوي لكلا البلدين، ومصر بصورة أكبر، فمصر هي المتضرر الأكبر من هذا كله، والسودان وإن بدا أنه ضد إثيوبيا؛ فالواقع يقول العكس، فإضافة إلى العلاقة غير المنتظمة بين كل من مصر والسودان، تعتقد مصر أن السودان ربما يراوغ. وقالت الخبيرة في الشأن السوداني إيناس مزمل، في تصريحات صحافية سابقة، إن "الرؤية السودانية غير مكتملة حتى الآن".
وخرجت بعض التصريحات تؤكد أن ملء السد، سيضمن استفادة السودان من كامل حصتها، ناهيك عن مشاركتها لمنافع توليد الطاقة الكهربائية، ولهذا فالمشروع قد لا يهدد السودان -ما عدا انهياره وهذا أمر مستبعد- بالقدر الذي يهدد مصر.
"بدا التخوف من سيناريو العطش الذي قد تواجهه مصر قاب قوسين أو هو أدنى، وبدأت الأمور تنسل من بين يدي القاهرة، خاصة وأن إثيوبيا -كما يبدو- لن تتراجع قيد أنملة؛ بعدما تجلى أن أديس أبابا تتحركُ وِفق خُطة مدروسة ربما طُبخت في مكاتب غير أفريقية
"
وتَحدثت تقارير كثيرة عن أن بداية ملء السد ستكون في غضون الأشهر القادمة (يوليو/تموز)، وهو ما شكل صدمة للمصريين كشعب، وتلقته الرئاسة المصرية على كَونه تحدياً إثيوبياً صريحاً. وبدا التخوف من سيناريو العطش الذي قد تواجهه مصر قاب قوسين أو أدنى، وبدأت الأمور تنسل من بين يدي القاهرة، خاصة وأن إثيوبيا -كما يبدو- لن تتراجع قيد أنملة؛ بعدما تجلى أن أديس أبابا تتحركُ وِفق خُطة مدروسة ربما طُبخت في مكاتب غير أفريقية، وإلا فكيف نُفسر الثقة العمياء الذي يتحلى بها المسؤولون الإثيوبيون والتي تجاوزت كل حد ووصلت إلى التهديد بالخَيار العسْكري، مع أن مِصر والسودان -التي عبرت عن سخطها بسبب تصرفات حكومة "آبي أحمد "-، لم تلجأ لمثل هذه التصْريحات، والتي نسجل استغرابنا منها؛ فإثيوبيا التي ليس لها أي وجود في الواقع الدولي وليست بذاك الثقل في القارة السمراء، ولم تمض سنوات طوال على خروجها من ضائقة الحروب والمجاعات؛ تجاهر بتصريحات من هذا النوع وتبدي استعدادها للخيار العسكري وحشد الملايين -كما صرح آبي أحمد- وكأنها هي الضحية لا الجاني!! إن هذا لشيء عُجاب!! والأعجب منه كيفية تعامل النظام المصري القائم وإعلامه مع القضية.
تعامل الإعلام المصري مع القضية
في كل مرة تتأزم فيها الأوضاعُ يعرض علينا الإعلام المصري سيناريو المسرحية القديمة "الإخوان هم السبب"، ولهذا فالسد سببه الإخوان كذلك، ومما عرضه أحد المذيعين المصريين منذ مدة، شريطٌ لاجتماع يظهر الرئيس محمد مرسي رحمه الله وهو يتباحث مع قادة الأحزاب آنذاك ملف سد النهضة، ولكونهم وطنيين؛ أبدى الكل حنقه على التصرفات الإثيوبية المستفزة والراغِبة في وَضع مصر أمام الأمر الواقع، ولأن القادة والمجتمعين لم يكونوا على عِلم ببث الاجتماع، فقد قالوا آراءهم بكل صراحة ومنها دعم الحركات الانفصالية وحتى الاستعانة بدول مُجاورة ومنها إسرائيل لكبح جماح أديس أبابا، وهذا ما اتخذته قنوات الإعلام ذريعة للنيل من الرئيس السابق، وإلصاق الملف به؛ مع أن الرئيس السابق قال بالحرف إن قطرة واحدة من مياه النيل بدماء المصريين، وأن كل الخيارات مفتوحة بما فيها الخيار العسكري. وهذه اللهجة لم نسمعها من القيادة الحالية، ولا رأيناها اجتمعت ولا استمعت لأحد، فالرئيس صرح في أكثر من مرة بأن الخيار العسكري مُستبعد وأن البلدان مثل الإخوة "السمن على العسل"، بل وأكد أنه طمأن الجانب الإثيوبي بعد فزعه من تصريحات الرئيس السابق، مما يعني أن مرسي استطاع أن يزرع في قلوب الإثيوبيين الرعب، وهذه ورقة رابحة كانت لتُكسب المصريين الكَثير، والرئيس الحالي ضيع هذا المكسب المعنوي؛ فأن تدخل المفاوضات وأنت القوي خير من أن تدخلها وأنت أمام الأمر الواقع وأنت مكتوف اليدين.
بعد أن هدد مرسي الرئيس السابق الذي توفي في السجن بسبب الإهمال الطبي وتقاعس إدارة السجن عن علاجه شأنه شأن عدة معتقلين سياسيين قضوا نحبهم، قام الرئيس الحالي فى 23 من شهر مارس/آذار 2015 بالعاصمة الخرطوم، بمعية الرئيس الإثيوبي السابق "ديسالين" والرئيس السوداني المخلوع "البشير"، بتوقيع اتفاق ثلاثي سمي بـ"اتفاق المبادئ"، تضمن عشرة مبادئ أهمها:
1- مبدأ التعاون.
2- مبدأ الاستخدام المنصف والمناسب.
3- مبدأ الثقة.
المبدأ الثالث يقضي بأن يكون لمصر والسودان الحق في الاستفادة من الطاقة الكهربائية التي سيولدها السد، وبالتالي يظهر بجلاء أن هذا الاتفاق كان بمثابة الضوء الأخضر للإثيوبيين، والحركة التي مهدت لبداية عملية البناء الرسمية، خاصة وأن البنك الدولي والشركاء كانوا في حاجة ملحة لمثل هذا الاتفاق الكتابي؛ كي يضمنوا عدم تهور مصر في المستقبل أو رفضها للسد جملة وتفصيلاً، وهذا ما حدث.
المصدر : أخبار العالم : سد النهضة... أي مستقبل ينتظره المصريون؟ (1)